فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{والله جَعَلَ لَكُمُ}.
معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذان من أول الأمر بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفسِ إلى وروده، وقوله تعالى: {مِن بُيُوتِكُمْ} أي المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدَر تبيينُ ذلك المجعول المبْهمِ في الجملة وتأكيدٌ لما سبق من التشويق {سَكَنًا} فَعَلٌ بمعنى مفعول أي موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتِكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه، أي جعل بعضَ بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} أي بيوتًا أُخَرَ مغايرةً لبيوتكم المعهودةِ هي الخيامُ والقِباب والأخبية والفساطيط.
{تَسْتَخِفُّونَهَا} تجدونها خفيفةً سهلةَ المأخذ {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} وقت تَرحالِكم في النقض والحمل والنقل، وقرئ بفتح العين {وَيَوْمَ إقامتكم} وقت نزولِكم في الضرب والبناء {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} عطفٌ على قوله تعالى: {مّن جُلُودِ} والضمائر للأنعام على وجه التنويع، أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبارِ الإبل وأشعار المعْزِ {أَثَاثًا} أي متاعَ البيت وأصلُه الكثرةُ والاجتماعُ ومنه شعرٌ أثيثٌ {ومتاعا} أي شيئًا يُتمتّع به بفنون التمتع {إلى حِينٍ} إلى أن تقضوا منه أوطارَكم أو إلى أن يبلى ويفنى فإنه في معرض البلى والفناء، وقيل: إلى أن تموتوا، والكلام في ترتيب المفاعيل مثلُ ما مر من قبل.
{والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ}.
من غير صنعٍ من قِبلكم {ظلالا} أشياء تستظلون بها من الحر كالغمام والشجرِ والجبل وغيرها. امتنّ سبحانه بذلك لِما أن تلك الديارَ غالبةُ الحرارة {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} مواضعَ تسكنون فيها من الكهوف والغِيران والسُّروب، والكلام في الترتيب الواقع بين المفاعيل كالذي مرَّ غير مرة.
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} جمع سِربال وهو كل ما يُلبس، أي جعل لكم ثيابًا من القُطن والكَتان والصوف وغيرها {تَقِيكُمُ الحر} خصّه بالذكر اكتفاء بذكر أحد الضدّين عن ذكر الآخر أو لأن وقايتَه هي الأهم عندهم لما مر آنفًا {وسرابيل} من الدروع والجواشن {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أي البأسَ الذي يصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الضرب والطعن، ولقد منّ الله سبحانه علينا حيث ذكر جميعَ نعمِه الفائضةِ على جميع الطوائف فبدأ بما يخُص المقيمين حيث قال: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} ثم بما يخص المسافرين ممن لهم قدرةٌ على الخيام وأضرابِها حيث قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام} إلخ.، ثم بما يعم من لا يقدر على ذلك ولا يأويه إلا الظلالُ حيث قال: {وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} إلخ.، ثم بما لابد منه لأحد حيث قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} إلخ.، ثم بما لا غنى عنه في الحروب حيث قال: {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} ثم قال: {كذلك} أي مثلَ ذلك الإتمامِ البالغِ {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي إرادةَ أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرةِ والباطنةِ والأنفسيةِ والآفاقية فتعرِفوا حقَّ مُنعمِها فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره، وإفرادُ النعمة إما لأن المرادَ بها المصدرُ أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيءٌ قليل، وقرئ {تَسلمون} أي تسلمون من العذاب أو من الشرك، وقيل: من الجراح بلبس الدروع.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} فعل ماض على طريقة الالتفات، وصرفُ الخطابِ عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليةٌ له أي فإن أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقيَ إليهم من البينات والعِبر والعظات {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغُ الموضح أو الواضح وقد فعلتَه بما لا مزيد عليه فهو من باب وضعِ السببِ موضعَ المسبب.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله}.
استئنافٌ لبيان أن تولّيَهم وإعراضَهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عُدد من نعم الله تعالى أصلًا فإنهم يعرِفونها ويعترفون أنها من الله تعالى: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث يعبدون غيرَ مُنعمها أو بقولهم: إنها بشفاعة آلهتِنا أو بسبب كذا، وقيل: نعمةُ الله تعالى نبوةُ محمد صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروها عِنادًا، ومعنى ثم استبعادُ الإنكار بعد المعرفة لأن حق مَنْ عرف النعمة الاعترافُ بها لا الإنكارُ، وإسنادُ المعرفة والإنكارِ المتفرِّعِ عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسنادِ حالِ البعض إلى الكل كقولهم: بنو فلان قتلوا فلانًا وإنما القاتل واحدٌ منهم، فإن بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي المنكرون بقلوبهم غيرُ المعترفين بما ذكر، والحُكم عليهم بمطلق الكفر المؤذِن بالكمال من حيث الكميةُ لا ينافي كمالَ الفِرقة الأولى من حيث الكيفية. هذا وقد قيل: ذكرُ الأكثر إما لأن بعضهم لم يَعرِفوا لنقصان العقل أو التفريطِ في النظر، أو لم يقُم عليه الحجةُ لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله جَعَلَ لَكُمُ}.
معطوف على ما مر، وتقديم {لَكُمْ} على ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل لمنفعتهم، وقوله تعالى: {مِن بُيُوتِكُمْ} تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب {سَكَنًا} فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء:
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا ** يا ويح نفسي من حفر القراميص

وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعًا تسكنون فهي وقت إقامتكم، وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} أي بيوتًا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من الأدم والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر والصوف ولوبر، وقال ابن سلام وغيره: بالإندراج لأنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها.
واعترض بأن {مِنْ} على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه ابتدائية، فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشترك في معنييه وأجيب بأن القائل بذلك لعله يى جواز هذا الاستعمال، وممن قال بذلك البيضاوي وهو شافعي.
وقيل: الجلود مجاز عن المجموع {تَسْتَخِفُّونَهَا} أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محمودًا {يَوْمٍ} وقت ترحالكم في النقض والحمل {ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم} ووقت نزولكم وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء، وجوز أن يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر، واختار ابن المنير الأول وقال: إنه التفسير لأن المنة في خفتها في السفر أتم وأقوى إذا لا يهم المقيم أمرها، قال في الكشف: وهو حق، وقال بعض الفضلاء: ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضًا فإنه يضربها وقد ينقلها من مكان إلى مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية عن التعرض لذلك اه ولا يخفى أن الاندراج ظاهر إن أريد بالظعن مقال الحضر وأما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير ظاهر.
نعم يجوز إرادة ذلك، وقرأ الحرميان وأبو عمرو {ظَعْنِكُمْ} بفتح العين.
وباقي السبعة بسكونها وهما لغتان والفتح على ما في المعالم أجزلهما، وقيل: الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق كالشعر والشعر.
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} عطف على قوله تعالى: {وَمِنْ جُلُودِ} والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز {أَثَاثًا} أي متاع البيت كالفرش وغيرها كما قال المفضل، قال الفراء: لا واحد له من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت: أأثثة في القليل وأثث في الكثير.
وقال أبو زيد: واحده أثاثة وأصله كما قال الخليل من قولهم: أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل

ونصبه على أنه معطوف على {بُيُوتًا} مفعول جعل فيكون مما عطف فيه جار ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيدًا وفي الحجرة عمرًا وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في الإيضاح.
وجوز أن يكون نصبًا على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثًا.
وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على ذا وهو ظاهر.
{ومتاعا} أي شيثًا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة، وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله:
وألفى قولها كذبًا ومينًا

والأولى أولى {إلى حِينٍ} إلى انقضاء حاجاتكم منه، وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفنائه؛ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت، والكلام في ترتيب المفاعيل مثله في مر غير مرة.
{والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ} من غير صنع منكم {ظلالا} أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروى ذلك عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام، وعن الزجاج وقتادة أيضًا الاقتصار على الشجر، وعن ابن قتيبة الاقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل، وعن ابن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها، والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة.
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباسًا من القطن والكتان والصوف وغيرها {تَقِيكُمُ الحر} خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفًا.
وقال بعضهم: من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم.
وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقًا في قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا دِفْء} [النحل: 5]. ثم قيل: وهذا وجه الاقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت.
واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية، وقال الزجاج: خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد، وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية، وقال في الكشف: هو الوجه، وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية، وما قيل: من أولوية الأول لقوله تعالى: {مّمَّا خَلَقَ ظلالا} فليس بيء لأنه تعالى عقبه بقوله بسحانه: {مّنَ الجبال أكنانا} كيف وهو في مقام الاستيعاب اه، وصاحب القيل هو ابن المنير، وقد اعترض أيضًا على قوله: إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء. اهـ. فتدبر.
{وسرابيل} من الجواشن والدروع {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن، وقال بعضهم: أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب، والكلام على حذف مضاف أي إذا بأسكم وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك {كذلك} أي مثل ذلك الاتمام للنعمة في الماضي {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في المستقبل، ومن هنا قيل:
كما أحسن الله فيما مضى ** كذلك يحسن فيما بقي

أو مثل هذا الاتمام البالغ يتم نعمته عليكم، وإفراد النعمة أما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل.
وقرأ ابن عباس {تتم} بتاء مفتوحة و{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ} بالرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع، وعنه أيضاف رضي الله تعالى عنه {نِعَمَهُ} بصيغة الجمع {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوه به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان، ويجوزأن يكون بمعناه اللغوي وهو الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عز وجل، وأيًا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكني به عنه.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {تُسْلِمُونَ} بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقًا ليشمل آفة الحر والبرد، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيًا سمع قوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80]. إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة: اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} اللهم هذا فلا فنزلت.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية: تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون {تَوَلَّوْاْ} مضارعًا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه: إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله} استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلًا فإنهم يعرفونها أن من الله تعالى: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلًا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: إنكارهم إياها قولهم: ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضًا عن عون بن عبد الله أنه قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب، وقيل: قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكروه ذلك ويجحدونه عنادًا، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: هو نبي.
ومعنى {ثُمَّ} الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم بمطلق الكفر المئذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل: المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادًا، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرًا يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل. اهـ.